مستقبل التعليم العالي خلال السنوات العشر المقبلة: توقعات من المحرر المؤسس لـ"الفنار"

ديفيد ويلر، رئيس التحرير السابق لمجلة Chronicle of Higher Education الأميركية، يقود مشروعا كبيرا لوقف الإسكندرية يتمثل بالتأسيس لدورية مستقلة في العالم العربي تُعنى بقضايا التعليم العالي في المنطقة. وسيقوم الوقف بإطلاق المجلة، وإسمها "الفنار"، خلال الشهر المقبل. في ما يلي نص مقتبس عن الكلمة التي ألقاها ديفيد في بروناي مؤخرا.

سأقدم لكم بعضا من توقعاتي حول مستقبل التعليم العالي خلال السنوات العشر المقبلة. ولكن قبل القيام بذلك، أود أن أستعرض بعض التجارب التي مرت علي والتي ساعدت في تكوين هذه التوقعات.

يطيب لي أن أقول أنه، وخلال سنوات عملي كصحافي، قمت بتغطية كافة القضايا والمواضيع في الجامعات، بدءا من الشعر ووصولا إلى علم الفيزياء. ولا أقصد هنا التباهي، ولكن إن أمضيت أكثر من 25 سنة في محيط يؤمّه العلماء، لا بد أن تلتقي بأناس من كل حدب وصوب. وأذكر يوم أجريت مقابلة مع ملك شعراء الولايات المتحدة، كما أتذكر باعتزاز الزيارة التي قمت بها إلى مختبر فيزياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا والمتخصص في مجال بصريات الكم. وكان العلماء في المختبر يبحثون في سلوك الذرات والفوتونات - أي كتل الطاقة التي تخرج من الذرات والتي نعرفها بـ"الضوء".

ويمكن أن يؤدي فهم أفضل لهذا العالم الذري إلى ابتكارات تكنولوجية أفضل وإلى تطبيقات مثل الأقراص المدمجة أو الألياف البصرية المستخدمة في الاتصالات عالية السرعة. لقد قضيت جزءا كبيرا من حياتي المهنية أحاول أن أدفع بالعلماء والمهندسين والباحثين في مجال الطب إلى شرح عملهم بتعابير ومصطلحات يمكن للشخص العادي أن يفهمها.

وفي نفس الوقت، لدي حب كبير للشعر. القصائد تكتظ بموسيقى الكلمات، بفنّ مقارنة شيء لآخر وبثقافة الأماكن، فتخلق كلاما يكون بنفس الوقت مليئا بالمعاني وموسيقيا إلى أقصى الحدود. ولذلك، كنت أحاول من وقت لآخر أن أدفع بالشعراء إلى شرح أعمالهم لي.

يمكن اعتبار الشعر من أرقّ العلوم الانسانية، والفيزياء من أقسى العلوم، ومن أجل الحصول على مستوى تعليمي متميز أؤمن بأن طرفَي الطيف مهمان للغاية. وتنبع توقعاتي حول السنوات العشر المقبلة في مجال التعليم العالي من هذا الاعتقاد. لا بد أن أشير إلى أن بعض هذه التوجهات التي أتوقع حصولها قد يكون نابعا من التفكير الرغبي لدي أكثر منه من توقعات حقيقية – ولكن في جميع الحالات التي أذكرها، فقد لاحظت مؤشرات مبكرة بأن الأمور متجهة نحو ما أتوقعه.

۱ – أتوقع زيادة الاهتمام بالعلوم الاجتماعية. تعي الجامعات أكثر فأكثر بأن مشاكل العالم لا يمكن حلها من خلال التكنولوجيا وحدها فقط. فكل حل تكنولوجي إن كان للأمراض المعدية الناشئة أو لتغير المناخ أو لتقليص عدد الفقراء في العالم، يجب أن يقوم بتطويره إنسان. لذا نحن بحاجة إلى فهم أكبر للسلوك البشري وهذا سيأتي من العلوم الاجتماعية. إن الوعود التي تتأتى من براءات الاختراع وغيرها من الملكية الفكرية العلمية غالبا ما لا يتم تحقيقها إذا لم تقترن بالعلوم الاجتماعية. هذه الرؤية الواضحة لم يتم دائما إقرارها في الماضي، ولكن سوف تتحقق في المستقبل.

۲ – أتوقع أننا سوف نرى انتشارا، إحياء أو زيادة اهتمام (حسب وجهة نظرك) في تعليم الفنون الليبرالية. أنا لا أرى بأن مفهوم تعليم الفنون الليبرالية قد قام بلد معين باختراعه، بل بالنسبة لي فإن هذا المفهوم نابع من إدراكنا قيمة أن يتلقى كل شخص يذهب إلى الجامعة العلم في التاريخ والأدب واللغات والعلموم الانسانية والاجتماعية الأخرى، بغض النظر عن مجال اختصاصه. وأعتقد أن الحجج باتت أقوى بأن تعليما أشمل ضروري ليس فقط لخلق قادة عالميين كفوئين، ولكن أيضا مواطنين عالميين كفوئين ومؤثرين.

۳ – أتوقع انتشار البرامج الجامعية التي تمتد لمدة عامين والتعليم المهني والتقني ما بعد الثانوي في أنحاء العالم. هذه ليست بالضرورة فكرة جذابة فيما البلدان تصب جم اهتمامها لجامعاتها الرسمية الرائدة والتي يتم التعامل معها في بعض الحالات وكأنها تعادل الماركات الفخمة والراقية. ولكن سيأتي يوم في كل قطر من أقطار العالم سيدخل فيه عدم التوافق بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات سوق العمل في البلدان، في صراع شديد. وربما يكون هذا الأمر قد بدأ بالحصول بالفعل. والمشكلة الأساسية التي تطرح في هذا السياق هي أن المجتمعات والحكومات والمعلمين لا يقدّرون دائما قيمة الأفراد الذين يعملون في هذه التخصصات التقنية ولا وضعهم الاجتماعي، سواء كانت تخصصاتهم في مجال الرعاية الصحية أو في البناء. فعلى سبيل المثال، لقد لاحظت شخصيا تحولا في مهن البناء. فخلال سنوات نشأتي في ولاية فيرمونت الأميركية، كانت مهنة التجارة مهنة محترمة وكان النجارون يُنظر إليهم كحرفيين قادرين على خلق منتجات جميلة ومتينة تم تصميمها تصميما جيدا من مواد طبيعية - الخشب. على النقيض من ذلك، فإن واشنطن العاصمة حيث عشت وعملت لسنوات عديدة، هي مدينة "ذوي الياقات البيضاء" حيث الكثير من السكان هم من المهنيين الذين تلقوا تعليما جامعيا، وحيث أولياء الأمور يقومون غالبا بدفع أولادهم للحصول على تعليم جامعي لمدة أربع سنوات حتى وإن لم تكن لدى الأولاد الكفاءة أو الاهتمام لخوض هكذا برامج. وفي الوقت نفسه يتساءلون لماذا لا يستطيعون العثور على أحد يقوم بإصلاح الأشياء في منازلهم.

٤ – سوف يتضاعف عدد أنظمة التصنيف العالمي للجامعات، مما سيخفف من قيمة الأنظمة الموجودة حاليا. أتوقع أنه خلال 10 سنوات، سيكون لكل جامعة نظامها التصنيفي العالمي الخاص، وبطبيعة الحال سوف تحتل كل جامعة المركز الأول في تصنيفها الخاص. أنظمة التصنيف هي بل أداة واحدة من بين عدد كبير من الأدوات يمكن أن تستخدمها الجامعات لقياس عملها، ونأمل أن يُنظر إليها من هذا المنظار في المستقبل. وأتوقع أن يتراجع الاهتمام بالتصنيفات إلى مستوى القسم أو الشعبة، حيث بعضها موجود الآن بالفعل، وحيث ستكون ذات فائدة أكبر.

۵ - في النزاع الفلسفي العالمي الواقع بين التعليم كمصلحة خاصة والتعليم كمنفعة عامة، سوف يفوز طرف "المصلحة الخاصة". العبء المادي للتعليم، عاليما، سوف ينتقل إلى أولياء الأمور والطلاب. لاحظ مثلا في المملكة المتحدة كيف أن مصاريف التعليم ارتفعت فجأة إلى 9000 جنيه استرليني في السنة. عندما أقول أن طرف "المصلحة الخاصة" سوف يفوز إنما ليس لاعتقادي بأن التعليم ليس منفعة عامة أو أن الحكومات لا يجب أن تساهم بشكل كبير في هذا القطاع. ولكن أعتقد أن الكثير من الحكومات تتجه نحو استنتاج مفاده أن الطلاب وأولياء الأمور بحاجة للاستثمار شخصيا وبشكل كبير في مجال التعليم من أجل أن تعمل النظم التعليمية بصورة جيدة.

٦ - اتحادات البحوث الجامعية سوف تتفوق على الحكومات في إيجاد الحلول لمشاكل عالمية. هذا التصريح يشير، بالطبع، إلى أن لدي نسختين من جينة التفاؤل. ولكن يبدو أن المنظمات الحكومية العالمية غارقة تماما بالبروتوكولات إلى حد أنها تقترب من الدخول في حالة شلل، بينما أرى أكثر فأكثر جامعات تتواصل مع جامعات أخرى عبر الحدود الوطنية وتنشئ علاقات تعاون بين الباحثين ذوي الاهتمامات المشتركة، وتحقق تقدما حقيقيا في حل المشاكل الصعبة والمعقدة.

۷ – إستخدام تكنولوجيا التعليم سوف يتزايد لتلبية عدم التوازن بين عدد الأساتذة المؤهلين وعدد الطلاب. أنا لست بالضرورة من أكبر المعجبين بنظام التعليم الإلكتروني، بل أعتبر نفسي من الأشخاص الذين يؤمنون بأن لا شيء يمكن أن يحل محل إنسان موجود في صف ولديه معرفة سيقوم بمشاركتها مع تلاميذ مهتمين بالحصول عليها. ولكن الانفجار السكاني الحاصل بين صفوف الشباب في العديد من البلدان والنقص في الكادر التعليمي المؤهل يدفعانني للقول بأن السبيل الوحيد لمواجهة هذه المعضلة هو من خلال التكنولوجيا. أعتقد أن الصفوف التي يتم تطويرها بعناية ويتم فيها استخدام التكنولوجيا بشكل صحيح يمكن أن تحقق نتائج عالية. فقد كتبت مؤخرا تقريرا، على سبيل المثال، عن صف باللغة العربية يتم تعليمه لطلاب يعيشون في مواقع نائية نسبيا في الولايات المتحدة وحيث يصعب إيجاد أساتذة للغة العربية. ويتكون الصف من أستاذ مقرّه في بيركلي في كاليفورنيا يعطي محاضرات حية (بالفيديو) عبر الإنترنت لطلاب دراسات عليا لغتهم الأم هي العربية ومتواجدين في كل من هذه المناطق النائية. قد تكون هذه الوسائل الجديدة التي تجمع بين تكنولوجيا التعليم عن بعد واللمسة الانسانية هي الحل في بعض أقطار العالم.

هذه هي بعض التوجهات التي أظن أنها ستكوّن التعليم العالي في المستقبل. وفيما تنظر كل مؤسسة على حدة إلى هذه التوجهات العالمية، توفر هذه الأخيرة عدسة يمكن من خلالها النظر إلى علاقتها بالقوى التي تكوّن الحياة الجامعية حول العالم.